سوريا الجديدة- تحول نحو الحضن العربي ومستقبل الاستقرار الإقليمي

بدأت تتجلى معالم المسار الذي سيسلكه النظام الحاكم الجديد في سوريا، وكذلك اتجاهاته السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي. داخليًا، ينصب التركيز على تطبيق خطة للانتقال السياسي خلال المرحلة الراهنة، وتتضمن هذه الخطة ثلاثة محاور رئيسية:
- المحور الأول: تشكيل حكومة موسعة من التكنوقراط الأكفاء.
- المحور الثاني: اختيار هيئة تشريعية مؤقتة أو مجلس نيابي انتقالي.
- المحور الثالث: تنظيم مؤتمر للحوار الوطني الشامل، يهدف إلى صياغة إعلان دستوري جديد، يمهد الطريق لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة وشفافة.
ومن المفترض أن تتوازى هذه الجهود مع العمل الجاد على تحقيق الأمن والاستقرار، وتلبية الاحتياجات المعيشية الضرورية للمواطنين السوريين، والسعي لتحقيق الانتعاش الاقتصادي المنشود، وإطلاق مشاريع إعادة إعمار شاملة لما خلفه نظام الأسد من دمار وخراب.
أما على الصعيد الخارجي، فإن السياسة التي تتبناها الإدارة الجديدة تتمحور حول تطبيع العلاقات مع دول الجوار الإقليمي والعالم أجمع. وقد بادرت الإدارة الجديدة بإرسال رسائل طمأنة عديدة للدول، تؤكد فيها أن سوريا تسعى جاهدة لتكون عنصر استقرار في المنطقة، وأنها لا تتبنى سياسة تصدير الثورات. بل ترى أن الثورة قد انتهت بسقوط النظام القديم، وأن المرحلة الراهنة تتطلب التركيز على بناء دولة حديثة، تسعى للعيش بسلام ووئام مع جميع دول الجوار العربي والإقليمي والدولي.
التوجه العربي
وضعت القيادة الجديدة في سوريا سياسة خارجية تولي اهتمامًا بالغًا بإعادة وصل ما انقطع من روابط تاريخية وثقافية وسياسية متينة بين الشعب السوري وأمته العربية. ويشكل التوجه نحو العمق العربي حجر الزاوية في السياسة الخارجية لسوريا الجديدة. ليس فقط من أجل الحصول على الدعم والمساعدة في تجاوز الظروف العصيبة التي فرضها نظام الأسد البائد، وإعادة بناء ما تهدم نتيجة ممارساته المدمرة، بل أيضًا انطلاقًا من إيمان راسخ بأن مكانة سوريا الطبيعية هي في قلب المنظومة العربية.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن أول زيارة خارجية يقوم بها وفد رفيع المستوى، مؤلف من وزير الخارجية أسعد الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة أنس خطاب، كانت إلى الرياض، ثم الدوحة، وأبوظبي. وعلى المنوال نفسه، كانت الزيارة الأولى للرئيس أحمد الشرع إلى المملكة العربية السعودية، حيث استُقبل بحفاوة بالغة من كبار المسؤولين في المملكة، وعلى رأسهم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
إن هذا التوجه العربي لسوريا الجديدة يفند المزاعم التي تروج لارتمائها في أحضان تركيا، واستبدال النفوذ الإيراني بنفوذ تركي، وذلك على الرغم من حرصها على بناء علاقات وثيقة وإستراتيجية مع الجارة تركيا، التي قدمت عونًا كبيرًا للشعب السوري خلال المحنة الصعبة التي ألمت به جراء الحرب التي شنها نظام الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون على مدى أكثر من ثلاثة عشر عامًا.
وترتكز الخلفية الأساسية لهذا التوجه العربي على المساعي الحثيثة التي يبذلها حكام سوريا الجدد لإعادة بلادهم إلى مكانها الطبيعي في قلب المنظومة العربية، وهو ما يستلزم إنهاء سياسة المحاور والاستقطابات التي انتهجها نظام الأسد، والتي أدت إلى وقوع سوريا في براثن المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، الذي استغلها كساحة لتصفية حساباته وصراعاته، فضلاً عن توغله العميق في مختلف مؤسسات الدولة السورية.
كما أفضت هذه السياسات الخاطئة إلى تحويل سوريا إلى قاعدة عسكرية متقدمة للنظام الروسي في منطقة الشرق الأوسط، واعتبارها نافذة إستراتيجية يطل منها على مياه البحر الأبيض المتوسط، ونقطة انطلاق لتعزيز نفوذه وهيمنته في المنطقة.
الاحتضان العربي
حظي التوجه العربي للنظام الجديد في سوريا بترحيب واحتضان عربي كبيرين، على النقيض من التوجه الغربي الذي ربط اعترافه بالواقع الجديد في سوريا بالخطوات التي ستتخذها الحكومة الجديدة، حيث وضع مسؤولون غربيون جملة من الشروط المتعلقة بطريقة التعامل مع مختلف مكونات المجتمع السوري وتمثيلها في مؤسسات الحكم، وحقوق المرأة، ومكافحة الإرهاب، وغيرها.
أما على الصعيد العربي، فمنذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد، سارعت كل من دولة قطر والمملكة العربية السعودية إلى التعبير عن ترحيبهما واهتمامهما بالتغيير الحاصل، وأصدرت وزارة الخارجية السعودية بيانًا أعربت فيه عن ارتياحها "للخطوات الإيجابية التي تم اتخاذها لتأمين سلامة الشعب السوري الشقيق، وحقن الدماء، والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومقدراتها".
وبدورها، أكدت وزارة الخارجية القطرية على "متابعة الدوحة باهتمام بالغ لتطورات الأوضاع في سوريا". كما أجرى رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ محمد بن زايد، اتصالًا هاتفيًا بالرئيس أحمد الشرع.
وأوفدت كل من قطر، والسعودية، والأردن، والبحرين، والكويت، وليبيا وفودًا رفيعة المستوى إلى دمشق، في حين امتنعت دول عربية أخرى عن التواصل مع الإدارة الجديدة، واختارت موقفًا سلبيًا تجاه التغيير الحاصل في سوريا، بل وضع بعضها شروطًا مماثلة للشروط الغربية.
لعبت دول الخليج العربي دورًا محوريًا في احتضان التغيير الحاصل في سوريا، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة، وذلك على الرغم من أن النموذج السوري في التغيير أتى بالإسلاميين إلى السلطة، إلا أن دولة قطر سارعت إلى الاعتراف بهذا التغيير، وإعلان دعمها الكامل للإدارة الجديدة ومساندتها على كافة الأصعدة، وذلك انسجامًا مع مواقفها الثابتة والداعمة للشعب السوري، والتي لم تتغير منذ اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس/آذار 2011.
ولم تتوانَ المملكة العربية السعودية كذلك عن تأييد هذا التوجه، وأبدت استعدادها للوقوف إلى جانب سوريا، وتقديم المساعدة اللازمة لتحقيق التعافي المبكر، ودعم جهودها الرامية لرفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية المفروضة عليها، بسبب الممارسات القمعية التي ارتكبها نظام الأسد البائد. وعلى المنوال نفسه، فعلت الإمارات العربية المتحدة، على الرغم من معارضة كلا البلدين لأطروحات وأيديولوجيات حركات الإسلام السياسي في المنطقة.
ويمكن القول إن دول الخليج العربي رأت في التغيير الذي حدث في سوريا معالجة لمشكلة كبيرة كانت تؤرقها، حيث وجه ضربة قاصمة للمشروع التوسعي الإيراني في المنطقة. فقد كانت سوريا خلال حقبة النظام السابق حلقة وصل حيوية للممر الممتد من طهران مرورًا ببغداد وصولًا إلى بيروت. وبذلك فقد النظام الإيراني الساحة السورية، التي كانت تمثل إحدى أهم مناطق النفوذ التي يستغلها في المنطقة لتنفيذ مشروعه القومي التوسعي.
ولا ترغب دول الخليج في ترك سوريا وحيدة، مما قد يدفع إيران إلى محاولة ملء الفراغ مرة أخرى، كما فعلت في العراق قبل عقدين من الزمن. ومما لا شك فيه أن احتضانها للنظام الجديد في سوريا سيعزز ابتعاده عن النظام الإيراني، ويجعل اعتماده على المنظومة العربية خيارًا إستراتيجيًا لا رجعة فيه، وهو ما عبر عنه بوضوح الرئيس السوري أحمد الشرع خلال زيارته للمملكة العربية السعودية. وقد تُوج هذا الاحتضان العربي بزيارة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى سوريا، في اليوم التالي لانتخاب أحمد الشرع رئيسًا لسوريا في المرحلة الانتقالية.
تدرك دول الخليج تمام الإدراك أن سوريا تمثل دولة محورية في التحولات الجيوستراتيجية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة، وهو ما يستلزم انخراطها الفاعل في التحول الحاصل في خرائط النفوذ وموازين القوى الجديدة في المنطقة، من أجل حماية مصالحها في منطقة تعج بالصراعات والاضطرابات.
وهنا تبرز أهمية بناء منظومة تعاون وثيقة مع سوريا الجديدة، وضرورة دعمها لتحقيق التعافي المنشود، وتذليل التحديات والعقبات الكأداء التي تواجهها في المرحلة الانتقالية، وألا يقتصر دورها على تقديم الدعم الإنساني والاقتصادي، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى الدعم السياسي الشامل، وخاصة العمل الجاد من أجل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة عليها.